
تشهد بيئة الأعمال في المملكة العربية السعودية تحولًا نوعيًا يعكس النهضة التشريعية والتنظيمية الشاملة التي تتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030، ومن أبرز مظاهر هذا التحول الشركات المهنية متعددة التخصصات، التي باتت تمثل أحد النماذج الحديثة في سوق الخدمات المهنية.
تجمع هذه الشركات بين أكثر من تخصص مهني داخل كيان مؤسسي واحد، مثل المحاماة والمحاسبة والهندسة والاستشارات الإدارية والمالية، مما يسهم في تحقيق التكامل بين الخبرات ورفع كفاءة الأداء المؤسسي. ولا يقتصر هذا النموذج على كونه خيارًا تنظيميًا، بل يُعد أداة استراتيجية للنمو والتوسع، إذ يسمح بتبادل المعرفة وتوسيع قاعدة العملاء ضمن إطار قانوني منضبط.
وفي ظل التطور التشريعي الراهن، جاء نظام الشركات الجديد ليواكب هذا التحول ويفتح المجال أمام تأسيس كيانات مهنية مرنة تجمع بين مختلف المهن الحرة، بما يعزز التنافسية ويرسخ مبادئ الحوكمة والشفافية في الممارسات المهنية.
أولًا: التعريف والإطار النظامي
عرّف نظام الشركات الشركة المهنية بأنها:
“هي شركة يؤسسها شخص أو أكثر من المرخص لهم نظامًا في ممارسة مهنة حرة واحدة أو أكثر، أو منهم مع غيرهم، ويكون غرضها ممارسة تلك المهن.”
وقد أجاز النظام أن تمارس الشركة أكثر من مهنة حرة في كيان واحد، بشرط أن:
- يكون بين الشركاء من يحمل ترخيصًا بمزاولة كل مهنة من المهن التي تمارسها الشركة.
- ألا تحظر الأنظمة المنظمة للمهنة ممارستها مع مهن أخرى.
- الحصول على موافقات الجهات المختصة عن كل مهنة.
- الالتزام بالضوابط النظامية والرقابية الصادرة عن وزارة التجارة والجهات المهنية المعنية.
وبذلك، أصبح من الممكن تأسيس شركة مهنية تجمع بين المحامين والمحاسبين والمهندسين والمستشارين وغيرهم، ضمن كيان مؤسسي واحد يزاول أكثر من مهنة حرة بصورة مشروعة ومنظمة.
ثانيًا: أمثلة تطبيقية لـ الشركات المهنية متعددة التخصصات
- شركة مهنية في مجال التقنية والقانون
- المهن المشاركة: المحاماة – تقنية المعلومات – حماية البيانات.
- النموذج: شركة تقدم خدمات في حماية الملكية الفكرية، الامتثال لأنظمة حماية البيانات، وتطوير الحلول التقنية لإدارة العقود والدعاوى إلكترونيًا.
- شركة مهنية في مجال العقارات والهندسة
- المهن المشاركة: الهندسة – التقييم العقاري – المحاماة.
- النموذج: تقديم خدمات الإشراف الهندسي وإدارة المشاريع، إلى جانب الاستشارات القانونية في التسجيل العيني للعقار والتحكيم العقاري.
- شركة مهنية في مجال المال والقانون
- المهن المشاركة: المحاسبة القانونية – المحاماة – الاستشارات المالية.
- النموذج: تقديم خدمات المراجعة المالية والتمثيل القانوني والاستشارات المتعلقة بالامتثال المالي وهيكلة التمويل.
- شركة مهنية في مجال الإدارة والحوكمة
- المهن المشاركة: الإدارة – الموارد البشرية – المحاماة.
- النموذج: إعداد اللوائح الداخلية، تطوير الهياكل التنظيمية، وصياغة العقود الإدارية بما يتوافق مع نظام العمل السعودي وأفضل الممارسات الإدارية الحديثة.
هذه النماذج تمثل التوجه الجديد نحو تكامل الخدمات المهنية وتوفير حلول شاملة تجمع بين الخبرات القانونية والفنية والمالية في كيان واحد، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030 في دعم القطاع المهني ورفع كفاءته.
ثالثًا: خطوات تأسيس الشركات المهنية متعددة التخصصات
1. إعداد دراسة الجدوى وتحديد نطاق المهن
يبدأ التأسيس بإعداد دراسة قانونية واقتصادية تحدد المهن التي ستزاولها الشركة، مع التحقق من عدم وجود تعارض نظامي بين تلك المهن، ودراسة السوق المستهدف ونموذج التشغيل والحوكمة.
2. صياغة عقد التأسيس أو النظام الأساسي
يُعد عقد التأسيس الوثيقة الجوهرية التي تحدد اسم الشركة وغرضها وأسماء الشركاء ونسب الملكية وآليات اتخاذ القرار وحدود المسؤولية المهنية لكل شريك.
ويُستحسن أن تتم صياغته على يد محامٍ متخصص في الشركات المهنية لضمان توافقه مع النظام واللوائح التنفيذية ذات الصلة.
3. الحصول على التراخيص والموافقات النظامية
قبل التسجيل في وزارة التجارة، يجب الحصول على عدم ممانعة من الجهات المهنية المعنية بكل مهنة، مثل:
- وزارة العدل (للمحامين والموثقين).
- الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين.
- الهيئة السعودية للمهندسين.
- وزارة الموارد البشرية (في حال ممارسة الاستشارات الإدارية).
4. التسجيل والإشهار
يتم تسجيل الشركة في السجل التجاري المهني بعد استكمال الموافقات النظامية وسداد الرسوم، ثم يصدر الترخيص بمزاولة الأنشطة المهنية وفقًا للمهن المحددة في العقد.
5. وضع اتفاقية الشراكة الداخلية
من الضروري وضع اتفاقية تنظيمية داخلية تحدد المهام والصلاحيات ونطاق المسؤولية المهنية لكل شريك، وتنظم آلية توزيع الأرباح والخسائر وفصل الأنشطة المختلفة، بما يضمن الشفافية ويحد من تضارب المصالح.
اعرف المزيد عن: تأسيس شركة في الرياض
رابعًا: مزايا الشركات المهنية متعددة التخصصات
1. تكامل الخدمات المهنية
تمكّن هذه الشركات العميل من الحصول على خدمات قانونية ومالية وفنية متكاملة من جهة واحدة، مما يقلل من تضارب المصالح ويسرّع عملية اتخاذ القرار.
2. رفع الكفاءة التشغيلية وتقليل التكاليف
بفضل مشاركة الموارد الإدارية والتقنية وتوحيد أنظمة الدعم، تتحقق وفورات تشغيلية ملحوظة.
3. تعزيز الحوكمة وبناء هوية مؤسسية قوية
يسهم هذا النموذج في بناء علامة تجارية مهنية ذات مصداقية عالية، ويعزز الالتزام بالحوكمة والشفافية في العمل المهني.
4. تنويع مصادر الدخل وتوسيع قاعدة العملاء
الدمج بين المهن المتكاملة يمنح الشركة ميزة تنافسية ويتيح التوسع في شرائح جديدة من العملاء محليًا وإقليميًا.
خامسًا: أبرز التحديات القانونية والتنظيمية
رغم المزايا الكبيرة، تواجه هذه الشركات عددًا من التحديات، أبرزها:
- تعدد الجهات التنظيمية واختلاف متطلباتها لكل مهنة.
- صعوبة تحديد المسؤولية المهنية عند تقديم خدمات مشتركة.
- تباين ثقافة العمل بين التخصصات مما قد يؤثر على الانسجام الداخلي.
- توزيع الأرباح والتكاليف بطريقة عادلة بين الشركاء المهنيين.
- الامتثال المتعدد لمتطلبات أنظمة الشركات والضرائب والعمل والبيانات الشخصية.
سادسًا: أهمية الاستعانة بالمكاتب القانونية المتخصصة
يُعد تأسيس الشركات المهنية متعددة التخصصات من العمليات القانونية المعقدة التي تتطلب خبرة واسعة في أنظمة الشركات والمهن الحرة.
لذلك، تُعد الاستعانة بـ مكتب محاماة واستشارات قانونية متخصص خطوة أساسية لضمان:
- سلامة الإجراءات النظامية منذ مرحلة الفكرة وحتى الترخيص.
- صياغة عقد تأسيس محكم وهيكل شراكة واضح.
- إدارة المخاطر المهنية والتأمين ضد الأخطاء.
- مواءمة النشاط مع متطلبات الجهات المختصة كافة.
إن وجود مستشار قانوني متمرس لا يحمي الشركاء فحسب، بل يعزز استدامة الكيان المؤسسي ويمنحه المرونة للتوسع وفق الضوابط النظامية.
الخاتمة
يتضح مما سبق أن الشركات المهنية متعددة التخصصات أصبحت أداة استراتيجية لتعزيز التكامل بين المهن الحرة ورفع جودة الخدمات المهنية في المملكة.
فهي تجسد توجهًا حديثًا نحو العمل المؤسسي القائم على الكفاءة والحوكمة، وتُعد إحدى الركائز التي تدعم تطور سوق الخدمات المهنية وفق رؤية المملكة 2030.
إن نجاح هذا النموذج يعتمد على صياغة قانونية دقيقة، وهيكل حوكمة واضح، وتطبيق معايير الامتثال المهني، مما يستلزم إشرافًا قانونيًا متخصصًا لضمان الانطلاق السليم والاستدامة طويلة المد.



